خطب صاحب الجلالة

جلالة الملك يوجه رسالة سامية الى المشاركين في ندوة بمناسبة اليوم الوطني للديبلوماسية المغربية

''الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
حضرات السيدات والسادة
يطيب لنا أن نوجه اليكم رسالتنا السامية هاته بمناسبة تخليد ذكرى اليوم الوطني للدبلوماسية المغربية الذي أضفينا عليه رعايتنا السامية تعبيرا من جلالتنا عن الاهتمام البالغ والاهمية القصوى التي نوليها لديبلوماسيتنا ولدورها في تحقيق ما نتوخاه لشعبنا من عزة وعلاء واشعاع ورخاء.
إن الاحتفاء بهذا اليوم يرمز لذكرى اصدار جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس رضي الله عنه يوم سادس وعشرين أبريل سنة 1956 للظهير الشريف المحدث لوزارة الشوءون الخارجية لمغرب الاستقلال حيث كان له - نور الله ضريحه - الفضل في تحرير الوطن واسترجاع سيادته الوطنية وتجسيد عودته الى المحافل العالمية عضوا نشيطا مع غيره من الامم الفاعلة في الحقل الدولي والسهر على تاسيس ديبلوماسية مغربية تحكمها وتوءطرها سياسة خارجية وطنية في مستوى عراقة المغرب التاريخية وخبرته الدولية كبلد ذي ماض ديبلوماسي حافل ومجيد ربط خلاله أسلافنا الميامين على مر الازمان علاقات مع أقطار وممالك كثيرة ومختلفة وعقدوا اتفاقات ومعاهدات متنوعة وجابهوا الازمات والحروب وقاوموا الاطماع والموءامرت وكان لهم سفراء ومبعوثون شهد لهم التاريخ بالحنكة والكفاءة.
ويذكر التاريخ المعاصر لوالدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه أنه كان آية في فن الديبلوماسية ضليعا في أسرارها ملما باصولها ومحيطا بشواردها كما يسجل له بمداد من الفخر الدور التأسيسي الذي قام به في بناء صرح السياسة الخارجية المغربية وترسيخ دعائمها وتحديد توجهاتها الكبرى مما بوأ بلادنا المكانة الدولية التي تستحقها بفضل ما كان يتمتع به رحمه الله وأكرم مثواه من معرفة تاريخية واسعة وحس جيوسياسي مرهف ووعي عميق بالمصالح العليا للوطن وادراك دقيق لموازين القوى وفهم صحيح لمعطيات السياسة الدولية ومقتضياتها وبعد نظر في الحكم على الاحداث والوقائع وفي تحديد الاهداف والمواقف واتخاذ التدابير والقرارات.
وهكذا استطاع المغرب أن يحفظ أمنه واستقراره ويقوي مركزه بين الامم ويستعيد مناطق محتلة من ترابه وعلى رأسها أقاليمنا الصحراوية. كما ربط علاقات تعاون ثنائية ومتعددة الاطراف للنهوض باقتصاده وتحقيق تنميته والقيام بدوره كاملا في المحافل الدولية والاقليمية اما للمشاركة في تطوير المجتمع الدولي وتحسين تنظيمه وأدائه أو لتعزيز العمل الجماعي أو للدفاع عن قضايا مشتركة أو للمساهمة في تحقيق مشاريع وحدوية أو تكاملية افريقية أو لتقوية أواصر الوئام والتضامن واصلاح ذات البين بين أشقائه واخوانه داخل الاسرة العربية والاسلامية والافريقية. مما جعل المكانة الدولية المرموقة للمغرب والتقدير الاجماعي للمجموعة الدولية لوالدنا المنعم تخولانه تمثيل عدة قارات ومنظمات دولية على مدى عهده الزاهر وتلكم احدى نفائس ارثه العظيم.
حضرات السيدات والسادة
ان المكتسبات التي حققتها الديبلوماسية المغربية في عهد والدنا المنعم تعد بمثابة رصيد ثمين ءالينا على نفسنا منذ تولينا عرش أسلافنا الميامين العمل على حسن استثماره والانكباب على تأهيل أدواته وءالياته وفق معطيات التحولات الطارئة على محيطنا الداخلي والجهوي والاقليمي والسهر على تجديده المستمر ليكون في خدمة مشروعنا الاجتماعي الديمقراطي الحداثي.
ان أهمية الديبلوماسية تكمن في أن نجاح أي استراتيجية تنموية بقدر ما هو رهين بامكانات الدولة الذاتية فانه يتوقف على قدرتها في استثمار ماتوفره لها المعطيات الخارجية من فرص التوسع والتبادل المثمر. كما أن الحضور على المستوى الدولي بجدارة لن يتأتى الا بفاعلية النشاط الداخلي لان المواجهة بين الدول لم تعد من قبيل الصراع الدموي بل أصبحت رحاها تدور في مجال التنافس لكسب الاسواق الخارجية انطلاقا من التنمية الداخلية للقدرة الانتاجية. ومن تم غدت الديبلوماسية أكثر من أداة لتنفيذ السياسة الخارجية وانما هي كذلك احدى أدوات تحقيق أهداف السياسة العامة للدولة سواء كانت هذه الاهداف خارجية بحتة أو داخلية.
وكما نجح المغرب في التعامل مع أسبقيات كل مرحلة تاريخية فان على ديبلوماسيته اليوم أن تتجند من أجل استثمار الصورة الجديدة التي رسخناها لدى الرأي العام الدولي لمغرب ديمقراطي وحداثي ملتف حول عاهله ومنارة للاعتدال والتسامح وان تعمل بجد ونشاط على استكشاف فضاءات جديدة للتعاون الاقتصادي وعلى تعميق البعد الاستراتيجي الذي من شأنه جعل المغرب الشريك النموذجي لكل البلدان في افق شراكة ارادية وتضامنية مثلى وترسيخ المكانة الدولية للمغرب كقطب جهوي رائد وعامل استقرار وسلم في محيطه وفضاءاته المغاربية والعربية والاسلامية والاورو متوسطية والافريقية والامريكية والاستفادة القصوى من نظام العولمة والاندماج في الاقتصاد الشمولي والتقليل من اثارهما السلبية على تنميتنا واعطاء علاقاتنا الخارجية نفسا جديدا.
حضرات السيدات والسادة
ان الديبلوماسية التقليدية بمفهومها الكلاسيكي المتمثل في جهاز وزارة الخارجية والبعثات الديبلوماسية باتت تواجه تحديات كبيرة بسبب التقدم الهائل لوسائل الاتصال والاعلام والنقل والتوسع المطرد للتعاون الدولي وانفتاح المجتمعات على بعضها البعض ضمن عولمة شمولية وتداخل الداخلي بالخارجي وظهور موضوعات جديدة كثيرة ومعقدة وتقنية على جدول أعمال السياسة الخارجية كالاقتصاد والتجارة والمال والنقد والشغل والهجرة والامن والبيئة وحقوق الانسان والثقافة ودخول فاعلين جدد في العمل الديبلوماسي من مجالس برلمانية وجماعات محلية ومنظمات غير حكومية ومقاولات بل وحتى اشخاص ذاتيين مثل كبار المبدعين والمثقفين والفنانين والابطال الرياضيين ناهيكم عن المكانة البارزة للمنظمات الدولية الجديدة الاقتصادية والمالية والتجارية وما لها من دور تشريعي متميز والاهمية المتزايدة للديبلوماسية الوقائية.
ان الاليات التقليدية للتعاون الثنائي والمتعدد الاطراف التي قامت على أساسها روابطنا التقليدية قد استنفدت غرضها وبلغت حدود فاعليتها وهي في حاجة لقفزة نوعية مطبوعة بالاقدام والابتكار والتجديد في الاليات والادوات والغايات.
لهذا ءالينا على نفسنا رسم معالم توجه مستقبلي لرفع هذه التحديات ومضاعفة الجهود لوضع اطار موءسسي جديد لينهض المغرب بالدور الريادي الذي يوءهله له رصيد علاقاته التاريخية واشعاعه الروحي وموقعه الجيو - استراتيجي ومشروعه المجتمعي الديمقراطي الحداثي غايتنا في ذلك بناء صرح ديبلوماسي متين لتقوية مكانة المغرب في مستهل الالفية الثالثة.
وهذا يقتضي في المقام الاول دعم القدرة التنسيقية للديبلوماسية التقليدية سواء على مستوى الادارة المركزية أو البعثات الديبلوماسية وذلك حتى يكون في مقدورها متابعة واستيعاب كل الفاعلين غير الحكوميين في العمل الديبلوماسي وتقوية الديبلوماسية غير الحكومية الجمعوية والبرلمانية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والانتشار المكثف في هذا الفضاء الجديد الذي طالما استغل خصوم وحدتنا الترابية غيابنا عنه.
كما يتطلب ذلك بالنسبة للسفير فضلا عن الكفاءة الديبلوماسية العالية والنهوض بمهمة الممثل المفوض لدى الدولة المعتمد لديها الاضطلاع بدور الفاعل النشيط لبلورة الطموحات الوطنية وفتح الافاق أمام مصالح وطنه سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية منفتحا على محيطه بكل مكوناته جاعلا نصب عينيه نشر رسالة المغرب وصورته كقلعة ترفع لواء الديمقراطية والتحديث وتكريم الانسان والوسطية والاعتدال والتسامح الاسلامي والعمل الدوءوب على جلب الاستثمار المنتج والسهر على مصالح رعايانا الاعزاء بالمهجر واشعارهم بما لجلالتنا من رعاية لاحوالهم وحرص على ارتباطهم بهويتهم وبالمساهمة بكفاءاتهم في خدمة بلدهم.
ومن هذا المنطلق فان دور الديبلوماسي بات يكتسي أهمية متجددة قصوى اذ أصبح المحور والوسيط الذي لابديل عنه بين صانعي القرار في السياسة الخارجية من جهة والسياسة الداخلية من جهة أخرى باعتبار الاولى امتدادا للثانية.
وان الديبلوماسي النافع لبلده اليوم هو الذي له من الحس التواصلي والنظرة الشمولية والقدرة على التركيب مايجعل من مهمته لبنة أساسية في نهوض ديبلوماسية بلده بدورها على النحو المطلوب في مجال بلورة السياسة الخارجية الوطنية وتنفيذها وتحقيق أهدافها.
حضرات السيدات والسادة
تشكل الملاءمة مع التحولات الدولية بهدف تحقيق اندماج أكبر في الاقتصاد العالمي يفيد المغرب في تعزيز بنياته وتأهيله لمواجهة التحديات وكذا انجاز أفضل شراكة مغربية أروبية ومتوسطية أحد الاهداف الاستراتيجية لديبلوماسيتنا.
وسنسهر على السير قدما بكل الاصلاحات الداخلية وتوطيد دعائم الديمقراطية وحقوق الانسان لتكون رافدا من روافد ديبلوماسيتنا.
وبموازاة مع ذلك يتعين على ديبلوماسيتنا أن توسع من آفاق حركتنا ودائرة علاقاتنا الاقتصادية والتجارية خارج الفضاء الاورو - متوسطي باتجاه أمريكا الشمالية والجنوبية واسيا لتتنوع روابطنا وتقل تبعيتنا ويتوسع تعاوننا.
كما يتوجب على المغرب الذي ينتسب الى مجموعات اقليمية أخرى تربطه بها روابط خاصة يمتزج فيها الوجدان والشعور بالمصير المشترك بحتميات المصلحة والتعاون أن يبقى وفيا لقيم وأهداف الوحدة والتضامن والتعاون وحسن الجوار مع جيرانه وأشقائه وأصدقائه من المغرب العربي وافريقيا والعالم العربي والاسلامي وأن ينهض بدوره كاملا في هذه المجموعات ويعمل جاهدا وباخلاص ومثابرة لبلورة تلك القيم وتحقيق تلك الاهداف والاماني متضامنا مع دول الجنوب في سعيها لتحقيق تنمية مستديمة وحل معضلة المديونية ورفع تحديات العولمة وفاعلا في حفظ السلام والدفاع عن الشرعية الدولية والقيام بالمساعدة الانسانية.
اذا كان الهدف الاسمى لديبلوماسيتنا هو جعل المغرب بلدا مستكملا لوحدته الترابية وشريكا محترما ومسموعا من طرف الدول العظمى والمدافع عن مصالح الدول النامية في عالم متحول فان له مثل سائر الدول مصالح حيوية لايمكنه التفريط فيها او التساهل بشأنها مهما كلفه ذلك من ثمن وفرض عليه من تضحيات.ان التوفيق بين كفالة هذه المصالح والحفاظ على السلم وحسن الجوار وعلاقات التعاون ومواصلة العمل من اجل التكامل الاقليمي وتاهيل الموارد البشرية والاليات والادوات لهو التحدي الكبير الذي تواجهه ديبلوماسيتنا التي نحرص على ان تظل مطبوعة بخصائص متميزة قائمة على التروي والواقعية لكن دون تخاذل وعلى الاعتدال دون تساهل في المبادىء وعلى المرونة دون تفريط في الاهداف وعلى احترام القانون ودعم الشرعية الدولية دون كلل في المطالبة بالعدل والانصاف وعلى اعتماد الحوار كافضل سبيل لحل النزاعات دون تردد في التنديد بالحوار الزائف والمشبوه.
حضرات السيدات والسادة
انه ليسعدنا ان نغتنم انعقاد ملتقاكم هذا لننوه بسفرائنا وسفيراتنا ورجال ونساء ديبلوماسيتنا الانجاد الملتئمين في هذا النادي الذي لا ننظر اليه كجمعية لموظفين سامين لوزارة الخارجية لان الديبلوماسية مهمة جليلة وليست وظيفة ادارية بل نعتبره ناديا تلتقي فيه التجارب والخبرات الديبلوماسية التي تغرف من معينها الاجيال المتعاقبة للديبلوماسيين كما ننتظر منه ايضا تقوية الصلات مع نظرائه في العالم لما فيه خير مملكتنا ناهضا في نفس الوقت باهدافه الثقافية والاجتماعية.
جزاكم الله عما اسديتموه لوطنكم ولملككم من جليل الاعمال أحسن الجزاء وابقاكم مجندين لخدمته على المعهود فيكم من الاخلاص والوفاء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وحرر بالقصر الملكي بطنجة في يوم 21 محرم الحرام 1421 ه الموافق 26 ابريل 2000 م''.