Logo Logo

 

"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،

السيدات والسادة،

يسعدنا أن نرحب بكم في المملكة المغربية التي تفضلتم باختيارها مكانا مناسبا لاحتضان مؤتمركم الدولي الرابع والثلاثين الذي نأمل أن يشكل لبنة إضافية تستحضر التحديات التي تواجهها الإنسانية في مطلع هذا القرن الجديد وطموحها للعيش الكريم والحرية والنماء المادي والروحي، في ظل تحولات هائلة يشهدها النظام الدولي على المستويات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والثقافية وغيرها.
ولا شك أن المشاركين في مؤتمركم هذا يستحضرون هذه التحديات وهذه الطموحات، بحكم عملكم المتواصل من أجل الرقي بمجتمعاتهم نحو الأفضل وضمان كرامة المواطن وحقوقه، لتمكينه من المساهمة الفعالة في البناء. ونعتقد أن هذا المسعى يتطلب تظافر الجهود وتكامل الإرادات الهادفة إلى النهوض بحقوق الإنسان بروح إيجابية توفر الضمانات القانونية والمؤسساتية والعملية الضرورية لذلك، كما توفر الشروط الموضوعية اللازمة للتمتع من استقرار وتنمية وعدالة، لأن تكامل البعدين هو الكفيل بتجنيبنا مآسي الاضطرابات والتطرف والتعصب والانغلاق التي نشهد في بقاع متعددة مدى تقويضها لأبسط مقومات الوجود الإنساني.
وما انتماؤكم لحقول ثقافية وفضاءات جغرافية ودينية ومدارس متنوعة إلا حلقة إضافية لهذا الغنى المتواصل ولخصائص التحديات التي تواجهها البشرية. وإننا نؤمن بكون قضايا حقوق الإنسان هي ملك للإنسانية جمعاء، لا فضل ولا سبق فيها لأحد، لأنها تمخضت عن مسار تاريخي ساهم الفكر البشري بمختلف ثقافاته وحضاراته في بنائه، كما أدت مختلف شعوب العالم التواقة للحرية والعدل ثمنا غاليا للوصول إليه عبر الكفاءات والمآسي التي مثلتها الحروب الكونية والحروب الاستعمارية وموجات العنصرية والتعصب والإرهاب والانتهاكات عبر العالم.

وقد استطاعت هذه المسيرة أن تثمر مكتسبات هامة انتصرت للديمقراطية وحقوق الإنسان وفتحت آفاقا واعدة للأمل والتبصر والإيمان القوي بمستقبل الإنسان. إلا أن تحديات جسيمة لازالت تقف في طريق هذه المسيرة وتعترض بناء أسس صلبة للسلام والتآخي في عدة بقاع من العالم، كما تدل على ذلك المأساة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني التواق إلى الحق في الوجود وإقامة دولته المستقلة على أرضه كمدخل لا محيد عنه للسلام في الشرق الأوسط، ومعاناة الشعب العراقي من جراء حصار يحصد أرواح أبناء هذا البلد بالآلاف ويهدم مقومات التمتع بأبسط شروط العيش الضرورية للكائن البشري، دون أن ننسى التصفيات العرقية التي تشهدها مناطق إفريقيا وأوروبا نفسها، إضافة إلى موجات العنصرية ومعاداة الأجانب التي تنتعش هنا وهناك وحتى في قلب دول ديمقراطية عريقة.

السيدات والسادة،
إن عالمنا في حاجة إلى إقامة أسس جديدة للتعاون والشراكة والتعاضد خدمة للإنسانية جمعاء، حتى نتمكن من بناء فضاء يسوده العدل والحرية وترسيخ الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان. فكيف نستطيع ربح هذا الرهان ومئات الملايين من الناس لا تجد لقمة عيشها ولا أبسط الحاجيات الضرورية من صحة وماء وتعليم وشغل وسكن وما إلى ذلك. وكيف نضمن الحق في التنمية المستديمة في ظل عولمة زاحفة ودول الجنوب ترزح تحت ثقل المديونية وتواجه منافسة غير متكافئة في ظل انفتاح السوق العالمي والثروات التكنولوجية الهائلة في الشمال. وكيف نبني كونية حقوق الإنسان دون أن نفقر الشعوب من ذاتيتها الثقافة وإرثها الحضاري ومقومات تاريخها الذي انبنى على امتداد قرون.
إننا نؤمن بأن القرن الجديد يدعوننا جميعا إلى مواصلة الجهود لتحقيق العدل والنماء والتمتع بحقوق الإنسان حتى نجعل الأفراد والشعوب يقررون مصيرهم بأنفسهم ويضطلعون بدورهم الفاعل ومسؤوليتهم في بناء الحاضر والمستقبل بما يقتضيه ذلك من وعي ودراية بكامل أبعاد وتحديات الواقع المحلي والدولي.

منذ تولينا عرش أسلافنا المنعمين، أعلنا بكل حزم ووضوح انحيازنا للقضايا العادلة وللديمقراطية وإشراك أبناء شعبنا في معركة التنمية المستديمة والشاملة. وقد أولينا عناية خاصة لقضايا حقوق الإنسان تجسدت في العديد من الإجراءات والخطوات الهادفة إلى مصالحة المغاربة مع تاريخهم وتسوية ما شابها من تجاوزات وانتهاكات. وكان هدفنا ولا يزال هو توفير الشروط الضرورية لتأمين المستقبل عبر جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإعادة التأهيل وإرساء الضمانات الكفيلة بالوقاية والحماية من عدم تكرار الماضي. كما أن دعوتنا إلى تجاوز الضغينة وإرساء ثقافة التسامح مع الإنصاف لمن شأنها أن تفتح آفاق المستقبل ومتطلبات بنائه بكامل الاعتزاز والمسؤولية.

وشكل هذا الاختيار حلقة من مشروع متكامل يتوخى توسيع فضاء الحريات وإصلاح التشريعات وتطوير الآليات وتدعيم التربية على حقوق الإنسان وبناء علاقات جديدة بين الإدارة والمواطن قوامها المصلحة العامة والثقة المتبادلة والمسؤولية في الأداء والتضامن مع الضعفاء والمهمشين وإشراك كافة مكونات المجتمع المدني في هذه المعركة المتواصلة.

ونحمد الله أن المغاربة أبانوا عن قدرات خلاقة ومبادرات مبتكرة في عطاءاتهم وبذلهم للنهوض بمجتمعهم. وإن إيماننا بدور جميع الفاعلين يهدف أيضا إلى تأسيس ثقافة جديدة تعزز المشاركة وتربي على المسؤولية وترسخ المبادرة الحرة وتقوي قيم الديمقراطية.

ولنا اليقين أن العناية بالعمل التربوي والسلوكي لمن شأنها أن تسهم في نشر ثقافة حقوق الإنسان بما تحفل به من تضامن وتسامح وحرية ومسؤولية، لأن التشريعات والآليات والسياسات تحتاج بالضرورة إلى مواطن ملم بأبعادها ومتشبع بقيمها ومبلور لروحها على مستوى السلوكات والمعاملات.

وان إيماننا بدور المجتمع المدني وبدوركم كفاعلين في هذا المجال هو الذي جعل مملكتنا تساهم بدور فعال في احتضان وتبني إحداث آليات دولية لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان. وإذ نقوم بذلك، فإننا ندري التحديات التي تواجه العمل التطوعي خاصة في حقول تتنازعها الصراعات والحساسيات. ونأمل أن يشكل لقائكم هذا محطة تغني مسيرة النهوض بحقوق الإنسان في العالم وتقف إلى جانب القضايا العادلة وتعزز متطلبات بناء عالم يسوده السلم والإخاء والتعاون البناء وتحترم فيه كرامة الإنسان وحقوقه.

وفقكم الله لما فيه خير البشرية جمعاء.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".