الخطاب الملكي السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
شعبي العزيز،
نخلد هذه السنة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة، في جو روحاني تهيمن عليه مشاعر التقوى وواجب الوفاء، وعميق الامتنان لله سبحانه وتعالى. أما التقوى، فإنها تزداد عمقا وسموا، بفضل حلول "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن". فهي مناسبة تستوجب التحلي بالفضائل التي يجسد فيها المؤمنون خصال التضحية والتضامن، والتسامح والإحسان.
كما أننا نعتز بحلول هذه الذكرى في ظل الوفاء لروح جدنا ووالدنا المنعمين، محرر الأمة جلالة الملك محمد الخامس الذي نخلد بخشوع الذكرى الثانية والأربعين لوفاته، ومبدع المسيرة الخضراء المظفرة التي نخلد اليوم ذكراها الثامنة والعشرين، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحيهما، اللذين سيظل الوطن مدينا لهما بأسمى آيات العرفان، معاهدين الله تعالى على أن نظل أوفياء لنهجهما.
وأما الامتنان لله، عز وجل، فعلى موصول نعمه، حيث نلتئم، هذا المساء، في جو من الوحدة الوطنية، والتضامن الاجتماعي، والاعتزاز بما رسخناه من نهج مغربي متميز، في الالتزام بالإسلام، والاجتهاد لتحقيق مقاصده في العدل والمساواة، وتكريم الإنسان، في مسايرة للتطور وانفتاح على روح العصر.
وستظل المسيرة الخضراء المظفرة معلمة بارزة في تاريخنا المعاصر، مثل ثورة الملك والشعب، ومحطة سنوية لتقييم ما قطعناه من أشواط على درب التعبئة المستمرة لرفع التحديات.
شعبي العزيز،
لقد ارتأيت أن أحدثك اليوم، عن المنحى الذي اتخذه تطور قضية أقاليمنا الصحراوية، والذي يستوجب منا المزيد من اليقظة والتبصر، باعتماد استراتيجية، قوامها ترسيخ صرحنا الديمقراطي الذي هو مكمن قوتنا في الدفاع عن عدالة قضيتنا، والتفعيل الأمثل لديبلوماسية هجومية، تتضافر فيها جهود كل المؤسسات والهيئات، حكومية وبرلمانية وحزبية ونقابية وجمعوية.
كما أقول لك، وبكل ثقة ووضوح، إنني أقدر انشغالك الطبيعي، على إثر التأويل المجانب للصواب للقرار 1495 الصادر عن مجلس الأمن، في 31 يوليوز الماضي. وإني لمعتز برد فعلك الجماعي الرافض لهذا الطرح، معطيا بذلك الدليل للعالم، أن الأمة المغربية من وجدة إلى السمارة، ومن طنجة إلى الكويرة، أمة واحدة، موحدة، رافضة لكل مساس بسيادتها الوطنية، ووحدتها الترابية.
لقد ظل المغرب، وهو الدولة الديمقراطية، ملتزما بمبدئ التسوية السلمية للخلافات، متعاونا باستمرار مع منظمة الأمم المتحدة، متمسكا بالإطار المعتمد من قبل المنتظم الدولي، منذ سنة 2001، في تأكيده على البحث عن الحل السياسي، المعروف بالحل الثالث، بعدما اتضح للمجموعة الدولية عدم قابلية تطبيق مخطط التسوية لسنة 1991.
ومن منطلق أن الشرعية الدولية، تقتضي روحا ومنطوقا، التفاوض المسبق بشأن أي حل سياسي، والقبول المشترك لإجراءات تنفيذه، فإن المغرب لم يفتأ ينادي بالاحتكام إلى هذا المبدإ السليم، وهو يرفض اليوم كما رفض بالأمس أي تأويل يخرج عن هذا السياق.
وإذ نؤكد من جديد عزمنا على مواصلة السير على النهج السلمي للمسيرة الخضراء، في إطار المسلسل الأممي الجاري، فإننا لن ندخر جهدا في الإسهام لإنجاحه بكل استعداد للتعاون التام. إلا أن جنوحنا للسلم وتشبثنا بالتفاوض الاتفاقي، لا يجوز أن يأول بنوع من الضعف المغلوط. فنحن اليوم أشد ما نكون عزما على الدفاع المشروع عن سيادتنا الوطنية، ووحدتنا الترابية، وعن كرامة المواطنين المغاربة، وعن هويتنا المتميزة بوحدتها، الغنية بتنوع روافدها والتي نحن الضامن لها، بصفتنا أميرا للمؤمنين، والممثل الأسمى للأمة.
لقد ظل المغرب، بحكم وعيه القوي بمسؤولياته وبدوره الفاعل داخل المنظمات الدولية والإقليمية، لا يتوانى في المشاركة الفعالة في عمليات حفظ السلام بإفريقيا وغيرها، وكذا الإسهام في الدور الريادي لإيجاد حل عادل وشامل في الشرق الأوسط، مؤكدا بذلك تشبثه بقيم السلام والحوار والديمقراطية، مما أكسبه التقدير والمصداقية في الوفاء بالتزاماته.
ولي اليقين، شعبي العزيز، بأنك تشاطرني هذه الرؤية، في انسجام تام وتجاوب كامل، واثقا في حاضرك ومستقبلك، معتزا بما تزخر به من طاقات كفيلة بضمان نجاحك، في كل ما تقبل عليه من مبادرات، وما تحققه من مشاريع وإنجازات.
ففي ظرف أربع سنوات من العمل الدؤوب، تغير المشهد المغربي كليا على جميع المستويات. وإننا لعازمون، في إطار توطيد دعائم الديمقراطية على أسس صلبة وفعالة، على إعطاء مختلف جهات المملكة تناسقا أقوى، بحيث يكون لكل جهة شخصيتها المتميزة، في ظل مغرب موحد، غني بتنوع مكوناته الإقليمية، جاعلين من الجهوية واللامركزية وعدم التمركز، وديمقراطية المشاركة والقرب، مشروعا استراتيجيا، يزداد بلورة وتجسيدا على أرض الواقع، ولا سيما في أقاليمنا الجنوبية.
لقد سجلنا بكل اعتزاز المشاركة المكثفة لرعايانا الأوفياء بأقاليمنا الجنوبية في مختلف العمليات الانتخابية، بنسبة تفوق ما تم تسجيله في الأقاليم الأخرى، مؤكدين بذلك تشبثهم بمغربيتهم.
فكل بطاقة انتخابية يضعها رعايانا الأعزاء بالأقاليم الجنوبية في صناديق الاقتراع، بكل حرية وتلقائية، هي تصويت إيجابي لتأكيد مواطنتهم المغربية، وتجديد لبيعتهم الدائمة للعرش العلوي المجيد، في كنف الأمن والطمأنينة والاستقرار، والحياة الديمقراطية الفعلية.
وبذلك، فإن النزاع المفتعل حول مغربية صحرائنا، لا يعد مسألة تصفية استعمار، فذلك ما تم بتفاوض وتراض واتفاق بين الأطراف المعنية، لا سيما بين المغرب وإسبانيا، بل مشكلا مصطنعا، في الاتجاه المعاكس للوحدة المغاربية، في عالم لا يمكن التعامل فيه إلا بمنطق التكتلات القوية، القائمة على الديمقراطية والاندماج الاقتصادي. وفي هذا السياق، ظل المغرب يعتبر الاتحاد المغاربي خيارا استراتيجيا لا مندوحة عنه، مؤكدين من أجل ذلك تشبثنا الراسخ بأواصر الأخوة، داعين الجزائر الشقيقة، إلى العمل سويا لحل المشاكل التي تعوق تحقيق تطلعات شعوبنا الشقيقة إلى بناء صرح مغاربي عتيد، قوامه التفاهم والاستقرار والوئام، والوحدة والتقدم والسلام.
وإننا، إذ نشيد بالمواقف النبيلة المتفهمة للحق المغربي من لدن عدد من القوى الفاعلة في المجتمع الدولي المهتمة باستقرار المغرب العربي والمنطقة المتوسطية، نرحب ونثمن كل المساعي الحميدة في هذا الشأن، مؤكدين أن المغرب القوي بإجماعه الوطني، وبعدالة قضيته، سيظل مستعدا للإسهام الإيجابي في إيجاد حل سياسي توافقي وواقعي ونهائي، ويأخذ بعين الاعتبار حقوقه المشروعة في صيانة سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية، في نطاق احترام المبادئ الديمقراطية وتطبيقها، وأن أي مبادرة منافية لهذه المقومات الأساسية للحل السياسي، لن تزيد الإجماع الوطني إلا صمودا، بل إن من شأن ذلك الزج بالمنطقة كلها في دوامة عدم الاستقرار، بدل التعاون للقضاء على الإرهاب والتطرف، اللذين يهددان الفضاء المتوسطي برمته.
إن العمل الدؤوب الذي تشهده مختلف مناطق المملكة، في إطار مجتمع ديمقراطي حداثي يؤمن للمواطن مستقبلا أفضل، ليتجلى بقوة في أقاليمنا الجنوبية، حيث التعبئة الشاملة وروح التضحية يضيفان كل يوم المزيد من الإنجازات، على درب تجسيد التدبير الذاتي لشؤونهم المحلية والجهوية.
وإن المغرب الذي يخلد، هذه السنة، الذكرى الخمسينية لثورة الملك والشعب من أجل استرجاع الاستقلال والحرية، في التحام وثيق بين الأمة وملكها، المؤتمن على سيادتها ووحدتها الوطنية والترابية، لن يقبل بأي حل مطروح لا يستجيب لحقوقه المشروعة، عاقدين العزم على مواصلة قيادة مسيراته المظفرة على درب الوحدة والتقدم والديمقراطية.
۞ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم۞. صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".